قصة اكتشاف فاتن حمامة... في روايات ثلاث

Post

قصة اكتشاف فاتن حمامة... في روايات ثلاث

السابع والعشرون من مايو 1931. لم يكن ذلك اليوم عادياً في تاريخ التمثيل العربي، إنه اليوم الذي استقبلت فيه الدنيا تلك الممثلة الأهم في تاريخ السينما العربية. فاتن حمامة، سيدة الشاشة العربية، ذلك الاسم الذي بات عنواناً للمتعة والرقي، وذاك اللقب الذي أضحى لصيقاً بها وحدها. لقب اتفق عليه الجميع منذ عشرات السنين. لم يطلقوا عليها "نجمة الجماهير" أو "نجمة الشباك" أو غير ذلك من الألقاب الرنانة، فالجماهير تتغيّر ويتبدّل معها نجومها ونجماتها، ونجم الشباك لا يصح أن يكون كذلك في كل مراحله الفنية، فضلاً عن المغزى التجاري للقب الذي قد لا يتوافق مع وجهة النظر النقدية تجاه نجم الشباك هذا. أما "سيدة الشاشة العربية" فهو لقب أو وصف دائم ومستمر غير مرتبط بمرحلة فنية أو عمرية، وغير منسوب للجمهور وحده أو للنقاد دون سواهم، وهو أيضاً لقب غير قابل للسحب أو تجريد صاحبه منه، إنه صك منحه كل المشاهدين جمهوراً ونقاداً لهذه المرأة التي احترمت المانح، فتحملت مسؤوليات هذه المكانة الخاصة.

وسيدة الشاشة - كما نرى - لقب موقوف على فاتن حمامة وحدها، لم تنازعها عليه واحدة مهما حاولت، بعكس ألقاب أخرى يمكن أن يتنازع عليها الآخرون والأخريات، إذن فهي حالة فريدة بين ممثلات السينما العربية. وسيدة الشاشة يعني أنها في عالم التمثيل السينمائي، كأمّ كلثوم سيدة الغناء في عالم الطرب، فأي مكانة عظيمة تلك التي تساوي بين فاتن في السينما وأم كلثوم في الغناء؟ الشيء المدهش أنه من بين كل الألقاب الفنية التي دأب الجميع على إطلاقها بوعي أو من دونه، لم يحظَ فنان رجل مهما كانت مكانته بلقب "سيد" رغم كل محاولات البعض إلصاق اللقب بهذا الفنان أو ذاك.

أي مكانة إذن لامرأة بدأت مشوارها بعفوية الطفلة الواعية لما تفعل، وأنهته بحكمة السيدة الناضجة التي خبرت الحياة واستوعبت كل ما كان يدور حولها، عايشت فاتن منذ مولدها العام 1931 ملوكاً وأنظمة وثورات وحروباً عالمية وإقليمية، وهي عبر كل هذا الزمان بارعة الحضور الذي لا تأخذ منه الأيام والسنون، قادرة على التأثير في الحياة الفنية والاجتماعية. ساندت نجوماً، وكسرت تابوهات، وغيّرت بأفلامها قوانين، ووجهت بفنها – في كثير من الأحيان – الرأي العام ولوّنته. أثْرت فاتن إذن وأثَّرت، وبين الإثراء والتأثير استحقت أن تكون نجمة عصر فني جميل هي عنوانه الأكبر، وأيقونة زمان سينمائي بديع هي تاجه الأغر. ظهرت أسماء وتتابعت، وغابت أخرى وتوارت، وظلت هي كما هي فاتنة الشاشة، سليلة البراءة وربيبة الوقار، وصاحبة كبرياء لا يعرف التنازل أو التفريط.

ما من شك في أن ذلك الكيان الفني الضخم اتكأ على موهبة فطرية لافتة تمتعت بها فاتن حمامة منذ طفولتها الباكرة، وهي الأساس الذي مدّت به تلك الطفلة جسور المحبة والإعجاب بينها وبين الملايين من عشاق فنها. ومن ثم فهي أهم ممثلة عربية بدأت مشوارها منذ مرحلة الطفولة، صحيح سبقها أطفال آخرون فى الظهور على شاشة السينما، بداية بالطفلين سعد وبثينة اللذين شاركا في فيلم "ليلى" الصامت سنة 1927، أول أفلام السينما الروائية الطويلة في مصر، وصحيح أتى بعدها أطفال كثيرون، لكن تبقى فاتن صاحبة التجربة الأكثر نضجاً واكتمالاً وتأثيراً من بين كل الأطفال الذين عرفوا طريقهم إلى عالم التمثيل.

وقصة اكتشاف فاتن ألحت صاحبتها على ذكرها أكثر من مرة بعدما أصبحت نجمة كبيرة، ومع ذلك ظل هناك قدر من الالتباس في ما يتعلق ببداية هذه القصة. هنا روايات أطراف ثلاثة، هم أبطال القصة ولا رابع لهم، وهم أحمد حمامة والد فاتن، ومحمد كريم مخرج فيلم "يوم سعيد" أول رجل أدار موهبتها، ثم فاتن نفسها.

ولنبدأ برواية بطلة الحدث، تقول فاتن في الحلقة الأولى من مذكراتها التى كتبتها لمجلة "الكواكب" في حزيران/يونيو العام 1956: "ودخلت الصدفة حياتي لأول مرة. وكان والدي قد قرأ في إحدى المجلات الأسبوعية المصورة التي كانت تصدر في ذلك الحين تفاصيل مسابقة للأطفال نظمتها المجلة. وحين عاد إلى المنزل في ظُهر ذلك اليوم نظر إليّ طويلاً، ثم قال وهو يبتسم: "فكرة.. فكرة حلوة!".

وفي اليوم التالي كان أبي ينفذ هذه الفكرة. ألبسني ملابس ممرضة من ممرضات الهلال الأحمر واصطحبني إلى مصور التقط لي صورة جميلة بالملابس البيضاء. وأذكر أنني فرحت يومئذٍ بلبس الثوب الأبيض الناصع، وإن كان وضع غطاء الرأس الكبير قد ضايقني كثيراً. وتسلّم والدي الصورة، وأرسلها إلى المجلة التي نشرتها على صفحة كاملة مع وصف مسهب قدم فيه المحرر إلى القراء فاتن الصغيرة!

وكانت هذه أول صورة لي تنشر في الصحف، وسوف تبقى إلى الأبد أعز الصور إلى نفسي لأنها لعبت دوراً مهماً في حياتي، فقد تلقى والدي بعد نشر الصورة بأيام قليلة خطاباً يحمل مظروفه كلمتي "فيلم عبد الوهاب".

وفضَّ والدي الخطاب فإذا به من المخرج محمد كريم، مخرج أفلام عبد الوهاب، يقول فيه إنه قد رأى صورتي في المجلة، وإنه يرشحني للقيام بدور مهم في فيلم عبد الوهاب الجديد. وفرح والدي للخبر، أما أنا فلم أعر الأمر اهتماماً كبيراً؛ لأنني عجزت يومئٍذ عن التنبؤ بما أعده لى القدر. وركبت القطار المسافر إلى القاهرة.. وحين عدت إلى محطة القاهرة ثانية كنت قد أصبحت نجمة. صغيرة!".

ويبدو أن فاتن استخدمت المونتاج في سرد وقائع ما حدث، فيما ذكر والدها هذه الواقعة بمزيد من التفاصيل في مقال كتبه لمجلة "الكواكب" العام 1960، يقول أحمد حمامة: "...وكنت قد أرسلت صورة لفاتن وهي ترتدي ثياب الهلال الأحمر إلى المسابقة التي نظمتها مجلة "الإثنين" لاختيار أجمل طفلة، وفوجئت بفاتن تفوز بلقب "أجمل طفلة"، وبعد أيام من نشر الصورة تلقيتُ خطاباً من المخرج محمد كريم يستدعيني لمقابلته أنا وفاتن، وبعد أيام وقفت فاتن تؤدي الامتحان أمام كريم، الذي أُعجب بها وقال لي إنه سيخطرني عند البدء في تصوير الفيلم الذي سيحتاجون فيه إلى طفلة. وتصادف أن نُقلت للعمل فى إحدى مدارس المنصورة، وفي اللحظة التي أرسل فيها محمد كريم خطاباً يستدعيني للاتفاق معي على أن تعمل ابنتي في السينما، ولكن الرسالة لم تصلني ورُدَّت إليه ثانية، وحدث أن جاء كريم في تلك الفترة إلى المنصورة ليحضر عرض أحد أفلام عبد الوهاب، وعندما سمعت بوجوده ذهبت لأزوره، وما كاد يراني حتى صاح: -"أنت فين، أنا بعت لك جواب ولم تستلمه"، واتفق معي كريم على أن أزوره في القاهرة لتوقيع الاتفاق، وهنأني لأن ابنتي هي أذكى طفلة في الدنيا. وبدأ العمل في فيلم "يوم سعيد"، وهو أول فيلم تظهر فيه فاتن".

هكذا حدد والد فاتن اسم مجلة "الإثنين" - إحدى إصدارات دار الهلال في الثلاثينيات  - التي نظمت المسابقة، مؤكداً أن فاتن فازت بلقب أجمل طفلة، وأنه تلقى بعدها خطاباً من كريم يستدعيه لمقابلته، وأنها نجحت في الاختبار الذي أجراه لها كريم فوعده بمراسلته عند الحاجة إلى فاتن، وأن الصدفة حالت بينه وبين الخطاب الذي أرسله كريم إليه بسبب نقله للعمل في المنصورة، وأنه التقى بالمخرج المعروف أثناء وجود كريم في المنصورة ليتم من جديد إحياء فكرة عمل الصغيرة فاتن في السينما.

لكن كريم يحكي ما حدث بصورة أخرى، وفي هذا الصدد فإن للمخرج المعروف روايتين بينهما 32 عاماً من الزمان، الأولى ذكرها لمجلة "الإثنين" بتاريخ 19/2/1940 في معرض حديثه عن الوجوه التى اكتشفها في فيلم "يوم سعيد" بعد أيام قليلة من عرض الفيلم، حين قال عن فاتن: "منذ ثلاثة أعوام أو يزيد – وكنا نستعد لإخراج فيلم "يحيا الحب" زارني حضرة أحمد أفندي حمامة، ومعه ابنته الطفلة فاتن، وعرض أن نعهد إليها بدور في الفيلم، وقد كنت أميل إلى تحقيق هذه الرغبة لما كان يبدو على الطفلة من ذكاء وصلاحية للسينما، لولا أن موضوع الفيلم لم يكن يتحمل أي إضافة أو تعديل، فأمهلت الوالد إلى فرصة أخرى. ومرت الأيام، إلى أن بدأنا الاستعداد لفيلمنا الحالي، وفيه دور لفتاة صغيرة فتذكرت "فاتن"، وكتبت إلى والدها، لموافاتي سريعاً، لكن شد ما كانت دهشتي حين عاد إلى الخطاب بعد أيام دون أن يتسلمه لعدم الاستدلال على العنوان. ضايقني ذلك كثيراً فبحثت، ولكن على غير جدوى.

وحدث أن سافرت يوماً إلى المنصورة لأعمال خاصة بالفيلم، وعدت إلى القاهرة في نفس اليوم، وبعد يومين من هذا التاريخ تلقيت خطاباً يعتب فيه كاتبه على أنني كنت في المنصورة ولم أفكر في زيارته، والتوقيع: "أحمد حمامة"!

ما كدت أتلو الخطاب حتى اتصلت به في الحال، فحضر مع فتاته، ورحت أختبرها مدة طالت إلى أكثر من ساعة، وأخيراً أسندت الدور إليها.

وقد اتضح أن وزارة المعارف التي يعمل فيها حمامة أفندي كانت قد نقلته إلى مدرسة المنصورة الصناعية، فترك القاهرة دون أن يفكر في إخباري بعنوانه الجديد".

وبعد اثنين وثلاثين عاماً ومن خلال مذكراته التي حققها محمود علي سنة 1972 يعود المخرج محمد كريم لتذكر قصة اكتشاف فاتن حمامة، فيقول عن بداية هذا الاكتشاف:

"لقد رأيت مئات الأطفال. كنت أراهم في اليوم الواحد بالعشرات، واستعرضهم بإلقاء نظرة سريعة، إلا أن واحدة منهن لم تستوقف نظري. وكنت أيأس. إلى أن وصلني خطاب يحمل خاتم بريد المنصورة من الأستاذ أحمد حمامة. قال فيه إنه مدرس في المنصورة، وإن له بنتاً صغيرة اسمها فاتن وأرفق بخطابه صورتين فوتوغرافيتين.. فأرسلت استدعيه مع الطفلة.

في الروايتين لا يأتي محمد كريم إطلاقاً على ذكر مسابقة مجلة "الإثنين" التي توقف صدورها منذ العام 1960، مؤكداً أن المبادرة كانت من جانب الأب أحمد حمامة، سواء بمقابلته مباشرة وعرض موهبة ابنته الصغيرة عليه، أو بإرسال خطاب فيه صورتان للطفلة فاتن، فضلاً عن بقية التفاصيل التي تتعارض بعض الشيء مع رواية والد فاتن، مع ملحوظتين مهمتين، أولاهما أن الرواية الأولى لكريم كانت العام 1940 حينما كانت ذاكرة جميع الأطراف في حالة انتعاش، وثانيتهما أن مذكرات كريم صدرت العام 1972 في ذروة نجومية فاتن وسطوتها الفنية، وفي الحالتين لم يصدر أي تعليق من جانب فاتن أو أسرتها على كلام محمد كريم، لكن هل هذا معناه أنه لم تكن هناك من الأصل مسابقة أجمل وجه، وأن فاتن لم تفز بجائزتها الأولى؟

أستطيع أن أؤكد هنا أن مجلة "الإثنين" التي كانت تصدرها مؤسسة "دار الهلال" قد أعلنت  فى آب/ أغسطس سنة 1936عن مسابقة لاختيار أجمل وجه طفلة، وأن صورة الطفلة فاتن ظهرت للمرة الأولى في العدد رقم 118 في 14 سبتمبر 1936 وكانت تحمل رقم 48 بين المتسابقين، وأن النتيجة النهائية لتلك المسابقة قد تم الكشف عنها في العدد 122 الصادر في 12 أكتوبر من العام نفسه وقت أن كانت الطفلة فاتن على مشارف السادسة من عمرها، وهو توقيت يتوافق مع توقيت التجهيز لفيلم "يحيا الحب" الذي عُرِض في يناير 1938 والذي ذكره محمد كريم في روايته الأولى عن اكتشاف فاتن. لكن المفاجأة الأهم أن فاتن لم تكن الفائزة الأولى فى هذه المسابقة كما تردد، وإنما كان ترتيبها السادسة، أما الفائزة الأولى فكان اسمها مريم طرابيشي، وهذا لا يقلل على الإطلاق من فاتن، لأن أياً من الفائزين التسعة الآخرين لم يثبت موهبته أو يشق طريقه إلى عالم الشهرة، ويكفي أنه بفضل هذه المسابقة عرف الفن العربي كله فنانة بحجم وموهبة فاتن حمامة، بينما لم يتبقَ للآخرين سوى ذكرى أنهم شاركوا في مسابقة كانت معهم فيها نجمة النجمات فاتن حمامة.

وبعد مشاركة الطفلة فاتن أمام محمد عبد الوهاب في فيلم "يوم سعيد" الذي عُرض في كانون ثاني/يناير 1940 لم تتوقف الموهبة الصغيرة عن الظهور السينمائي بخلاف كل أطفال السينما تقريباً الذين إما توقفوا تماماً بعد تجاوز مرحلة الطفولة على غرار الطفلة المعجزة فيروز، وإما احتاجوا لسنوات من التوقف حتى يتخطوا مرحلة المراهقة على النحو الذي حدث مع نيللى وبوسي وهاني شاكر وممدوح عبد العليم. أما فاتن فقد مضت في مسيرتها من دون توقف منذ العام 1940 وحتى آخر أفلامها "أرض الأحلام" سنة 1993، ثم مسلسلَيها الأخيرين "ضمير أبلة حكمت" و"وجه القمر".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى: [email protected]

موقع هنا الموقع الرائد بموضعيته ومصداقيته يدعوك للانضمام إليه عن طريق الواتس أب عبر الرابط المرفق : انضموا الينا

0 تعليقات

انضم إلى المحادثة